Pages

Kamis, 21 September 2023

هل الجهاد مجرد حرب الدفاع؟

من المسلمين من قال بأن الجهاد هو مجرد حرب الدفاع على الوطن أو البلد إذا هجم عليه العدو. ومنهم من قال أن الجهاد لا وجود له مطلقا إلا عند وجود الدولة الإسلامية، فلا جهاد اليوم بسبب عدم وجود الخليفة للمسلمين. هل هذا القول صحيح؟  فهنا سنوضح إن شاء الله تعالى هذا الغموض الذي يخيم على المسلمين اليوم.

فالجهاد هو بذل الوسع في القتال في سبيل الله مباشرة أو غير مباشرة أو معاونة بمال أو رأي أو تكثير سواد أو غير ذلك. فالقتال لإعلاء كلمة الله هو الجهاد[1]. فقد دلت عدة الآيات والأحاديث على فرضية الجهاد وسبب مشروعيته وكذلك وعد الله لمن جاهد في سبيله بأمواله وأنفسه. 

أما سبب مشروعية الجهاد فلا يكون إلا لنشر الإسلام ورد العدوان ﻷجل تحقيق الأمن والطمأنينة. فهناك أدلة دلت على أن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما بعث للناس كافة، بل أمته وأتباعه أمروا بتبليغ هذه الرسالة لجميع الناس إلى أن تقوم الساعة، فقال الله تعالى في سورة سبأ : {وَمَآ أَرْسَلْنَٰكَ إِلَّا كَآفَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعْلَمُون} أي وما أرسلناك إلا للناس عامة لأجل الإنذار والبلاغ. والكافة بمعنى الجامع. وقال جل شأنه في أول سورة الفرقان : {تَبَارَكَ ٱلَّذِى نَزَّلَ ٱلْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِۦ لِيَكُونَ لِلْعَٰلَمِينَ نَذِيرًا} وقال تعالى في سورة الأنبياء : {وَمَآ أَرْسَلْنَٰكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَٰلَمِينَ} أي ما بعثناك إلا رحمة لجميع الخلق. وفي الحديث ما أخرجه البخاري عن جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ وَأُحِلَّتْ لِي الْمَغَانِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً".

وأما كون الجهاد لأجل تحقيق الأمن والطمأنينة فقال تعالى في سورة الحج : {وَلَوْلَا دَفْعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَٰمِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَٰتٌ وَمَسَٰجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا ٱسْمُ ٱللَّهِ كَثِيرًا ۗ وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُ} أي لولا ما شرعه الله تعالى للأنبياء والمؤمنين من قتال الأعداء لاستولى أهل الشرك وعطلوا ما بنته أرباب الديانات في مواضع العبادات. فقد أكد بقوله {وَلَوْلَا دَفْعُ ٱللَّهِ } هذا الأمر للقتال في الآية التي قبلها {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَٰتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا۟} فكأنه قال: فلولا الجهاد والقتال لتغلب على الحق في كل أمة.[2]

أما الأدلة التي دلت على فرضية الجهاد فمتناثرة في عدة السور منها قوله عز وجل في سورة البقرة : {كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ} فلفظ كتب بمعنى فرض. ولا شك أنه من الألفاظ التي تدل على الجزم. وفي هذه الآية ما كان فيها بيان من فعل بضرورة الالتزام به مع المشقة دون استبدال بغيرها. وهذا من قبيل القرينة التي تفيد الجزم. [3] وهذه الآية تدل دلالة واضحة على أن الجهاد فرض مطلقا وليس مقيدا بشيء ولا مشروطا بشيء فاﻵية تدل أنه مطلق. فوجود الخليفة لا دخل له في فرض الجهاد، بل الجهاد فرض سواء أكان هناك خليفة للمسلمين أم لم يكن.[4] وفي الحديث ما أخرجه البخاري عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّ الْإِسْلَامِ وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ"

وقد شرح الفقهاء عن أحكام الجهاد في مؤلفاتهم في باب خاص له وبينوا فيه حكم الجهاد وأنواعه و شرائط وجوبه وغير ذلك مما يتعلق به بيانا كافيا واضحا، يكفي المسلمون للرجوع إليها حتى يستقيم الفهم كما طلبه الشرع، فلا حاجة هنا لتفصيله. إلا أننا نريد ذكره لمحة لأجل التذكر على هذا الأمر النبيل الذي هو ذروة سنام الإسلام.

فإن الجهاد كان ممنوعا قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة لأنه كان مأمورا بالصير وتحمل الأذى لأنه لم تكن للمسلمين الدولة والقوة والمنعة لأداء هذا الأمر. وكان بعد هجرته إلى المدينة يؤذن للقتال لمن يقاتلهم بقوله تعالى في سورة الحج : {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَٰتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا۟ ۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}. ثم نزل بعد ذلك قوله تعالى في سورة البقرة : {وَقَٰتِلُوا۟ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوٓا۟ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ} فكان القتال إذنا ثم أصبح بعد ذلك فرضا لأن آية الإذن في القتال مكية وهذه الآية مدنية متأخرة.[5] ثم أبيح بعد ذلك ابتداء القتال في غير الأشهر الحرم بقوله جل شأنه في سورة التوبة : {فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلْأَشْهُرُ ٱلْحُرُمُ فَٱقْتُلُوا۟ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَٱحْصُرُوهُمْ وَٱقْعُدُوا۟ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ۚ فَإِن تَابُوا۟ وَأَقَامُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُا۟ ٱلزَّكَوٰةَ فَخَلُّوا۟ سَبِيلَهُمْ}. ثم أبيح بعد ذلك على الإطلاق أي حتى في الأشهر الحرم بقوله تعالى في نفس السورة : {وَقَٰتِلُوا۟ ٱلْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَٰتِلُونَكُمْ كَآفَّةً}.

أما فرضيته هل هو من قبيل فرض كفاية أم فرض عين فينظر إلى حال الكفار لحال الكفار. فإن كانوا في بلادهم فيكون الجهاد  فرض كفاية على المسلمين. وهذا من قبيل الجهاد ابتداء أي أن يبدأ المسلمون بقتال الكفار قبل أن يقاتلوا المسلمين. وإن لم يقم بالقتال ابتداء أحد المسلمين في زمن أثم الجميع بتركه. وهذا الجهاد ليس بفرض عين، وإلا لتعطل المعاش. ويدل على ذلك قوله عز وجل في سورة النساء : {لَّا يَسْتَوِى ٱلْقَٰعِدُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُو۟لِى ٱلضَّرَرِ وَٱلْمُجَٰهِدُونَ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ ۚ فَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلْمُجَٰهِدِينَ بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى ٱلْقَٰعِدِينَ دَرَجَةً ۚ وَكُلًّا وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلْحُسْنَىٰ ۚ وَفَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلْمُجَٰهِدِينَ عَلَى ٱلْقَٰعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} في هذه الآية بين الله تعالى أنه فضل المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما ووعد كلا الحسنى وهي الجنة. وقوله تعالى في سورة التوبة : {وَمَا كَانَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا۟ كَآفَّةً ۚ فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا۟ فِى ٱلدِّينِ وَلِيُنذِرُوا۟ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوٓا۟ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}. فقد حثهم الله تعالى على أن ينفر بعضهم وتمكث طائفة. فدل على أن الجهاد فرض كفاية لا فرض عين.[6]

        إلا إذا استنفرهم الخليفة أو الإمام فإن الجهاد أصبح فرضا على كل منهم لقوله تعالى : {يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ ٱنفِرُوا۟ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱثَّاقَلْتُمْ إِلَى ٱلْأَرْضِ ۚ أَرَضِيتُم بِٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا مِنَ ٱلْاخِرَةِ ۚ فَمَا مَتَٰعُ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا فِى ٱلْاخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} ففي الآية زجر على من تباطأ وتثاقل حين استنفره الإمام على القتال. فدلت الآية على وجوبه. وروى الشيخان عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ  :"لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا".

وأما الحال الثاني أن يدخل الكفار بلدة من بلاد المسلمين، ومثل البلد القرية، وكذلك البلدة من بلاد أهل الذمة، فالجهاد حينئذ فرض عين على أهل تلك البلدة حتى الصبيان والنساء والعبيد. وأما لغير أهل تلك البلدة فيكون فرض كفاية . قال تعالى في سورة الأنفال : {يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓا۟ إِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ ٱلْأَدْبَارَ}.

ومن المحتم ألا يحل للمسلمين أن يقاتلوا من لم تبلغه الدعوة الإسلامية بل لابد أولا من دعوة الكفار إلى الإسلام. فإن قبلوا وأسلموا وصارت بلادهم جزءا من الدولة الإسلامية فلا يجوز قتالهم. فإن أبوا فللمسلمين أن يطلبوا منهم الجزية لقوله تعالى : {قَٰتِلُوا۟ ٱلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلَا بِٱلْيَوْمِ ٱلاخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ ٱلْحَقِّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُوا۟ ٱلْكِتَٰبَ حَتَّىٰ يُعْطُوا۟ ٱلْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَٰغِرُونَ} فصارت بلادهم جزءا من الدولة وإن لم يعتنقوا الإسلام ولكنهم خضعوا لحكمه. فإن أبوا على ذلك فعلى المسلمين قتالهم. فقد أخرج مسلم عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا ثُمَّ قَالَ اغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ اغْزُوا وَلَا تَغُلُّوا وَلَا تَغْدِرُوا وَلَا تَمْثُلُوا وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ أَوْ خِلَالٍ فَأَيَّتُهُنَّ مَاأَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إِلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَلَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ فَإِنْ أَبَوْا أَنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْهَا فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللَّهِ الَّذِي يَجْرِي عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَكُونُ لَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ شَيْءٌ إِلَّا أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَسَلْهُمْ الْجِزْيَةَ فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَقَاتِلْهُمْ"

من هنا عرفنا بأن حكم الجهاد هو فرض على المسلمين في كل زمن. لأن الله تعالى جعل هذا الدين لكافة الناس وكلفنا بتبليغ هذه الرسالة إليهم. فالجهاد لا يكون إلا لأجل نشر الإسلام في ربوع العالم. فلابد من الجهاد ابتداء أي أن نبدأ بقتال الكفار في بلادهم لكونهم لم يقبلوا الدعوة. وهذا من قبيل فرض كفاية. فإن لم يقم بالقتال أحد من المسلمين أثم الجميع. أما الجهاد لأجل الدفاع وطرد العدو الذي هجم بلدة من بلاد المسلمين فيكون من قبيل فرض عين على كل أهل بلدة، ذكورهم وإناثهم رجالهم وصبيانهم وفرض كفاية على غيرهم. ولا يسقط الفرض حتى يطرد العدو وتطهر أرض الإسلام من رجسه. كما كان حال فلسطين وسوريا وتركستان وغير ذلك من بلاد المسلمين المحتلة حتى يومنا هذا.

فمن الخطأ القول بأن الجهاد مجرد حرب الدفاع عن البلد أو الوطن .فلا قتال إلا إذا بدأ العدو بقتالنا. فكذلك من الخطأ القول بأنه لا جهاد مطلقا إلا عند وجود الخليفة. فإن الجهاد لأجل الدفاع عن البلد من بلاد المسلمين المحتلة يكون فرض عين لأهل تلك البلدة وهو فرض كفاية على غيرهم.

والله تعالى أعلى وأعلم

 



[1] تقي الدين النبهاني، الشخصية الإسلامية الجزء الثاني، الجهاد, ص ١٤٥

[2] القرطبي، أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر، الجامع لأحكام القرآن، الجزء الرابع عشر، ص ٤.٨، دمشق الحجاز, الرسالة العالمية

 

[3] عطاء بن خليل، تيسير الوصول إلى الأصول، الفصل الثاني الخطاب التكليف, ص ٢٢

[4] تقي الدين النبهاني، الشخصية الإسلامية الجزء الثاني، الخليفة والجهاد ص ١٥٠

[5] محمد علي الصابوني، روائع البيان تفسير آيات الأحكام من القرآن الجزء الأول، المحاضرة العاشرة مشروعية القتال في الإسلامد ص ١٨٩، صيدا بيروت، المكتة العصرية

[6] الباجوري، إبراهيم بن محمد بن أحمد، حاشية الباجوري على شرح العلامة ابن قاسم العزي على متن أبي شجاع، المجلد الرابع، كتاب أحكام الجهاد، ص ٢٣١، جدة المملكة العربية السعودية, دار المنهاج

 

Minggu, 17 September 2023

من أسباب ما يوهم الاختلاف بين آي الكتاب

حين نقرأ القرآن ونحفظه ونتدبر آياته قد يقع في ذهننا بعض الاختلاف والتناقض بين آياته أو بين آياته المتشابهات الألفاظ وهذا الاختلاف قد يقع في استعمال بعض الألفاظ لما يوهم أنها في موضوع واحد مثل ما يقع في بعض الآيات التي تتكلم عن خلق آدم عليه السلام فورد في سورة آل عمران : {كَمَثَلِ ءَادَمَ ۖ خَلَقَهُۥ مِن تُرَابٍ} وقال في سورة الحجر : {وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلْإِنسَٰنَ مِن صَلْصَٰلٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} وفي سورة الصافات :{إِنَّا خَلَقْنَٰهُم مِّن طِينٍ لَّازِبٍ} وفي سورة الرحمن : {خَلَقَ ٱلْإِنسَٰنَ مِن صَلْصَٰلٍ كَٱلْفَخَّارِ}. وقد يقع الإثبات والنفي إما في آية واحدة كقوله تعالى : {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمْ ۚ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ} وقوله : {وَتَرَى ٱلنَّاسَ سُكَٰرَىٰ وَمَا هُم بِسُكَٰرَىٰ} أو في عدة الآيات كقوله تعالى: {ٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} مع قوله : {فَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ مَا ٱسْتَطَعْتُمْ}.   

فقد يرجع هذا الإيهام في اختلاف بين بعض الآيات إلى عدم الدراية باللغة العربية وأساليبها أو عدم المعرفة بما نقل عن رسول الله تعالى. فإن الله قد نزل هذا الكتاب باللغة العربية وأرسل رسوله ليبين للناس ما نزل إليهم .فلا بد لفهم كلامه من الرجوع إلى اللغة العربية وأساليبها ومعاني ألفاظها وتراكيبها وكذلك الرجوع إلى ما نقل عن الرسول عليه الصلاة والسلام. 

وكلام الله منزه من الاختلاف والتناقض وقد قال الله جل شأنه : {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ ٱلْقُرْءَانَ ۚ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُوا۟ فِيهِ ٱخْتِلَٰفًا كَثِيرًا}[1] أي تناقضاوتقاوتا .ولا يدخل في هذا اختلاف ألفاظ القراءات وألفاظ الأمثال والدلالات ومقادير السور والآيات.[2]

وقد اجتهد علماءنا في بيان مايوهم الاختلاف والتناقض في آيات القرآن ليزيل الإشكال في ذهن المبتدئين. ومن هؤلاء العلماء الإمام الزركشي الذي صنف في كتابه المشهور المسمى بالبرهان في علوم القرآن. فذكر في هذا الباب أسباب للاختلاف وهي :

الأول- وقوع المخبر به على أحوال مختلفة وتطويرات شتى كقوله تعالى في خلق آدم بأنه: {مِن تُرَابٍ}[3] وتارة قال أنه {مِن صَلْصَٰلٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ}[4] ومرة أنه :{مِّن طِينٍ لَّازِبٍ}[5] ومرة : {مِن صَلْصَٰلٍ كَٱلْفَخَّارِ}[6]. وقد اختلفت هذه الألفاظ ﻷن معانيها  في أحوال مختلفة. فالصلصل غير الحمأ والحمأ غير التراب، إلا أن مرجعها كلها إلى جوهر وهو التراب ومن التراب تدرجت هذه الأحوال.

والثاني - لاختلاف الموضوع كقوله تعالى :{ٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} مع قوله :{فَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ مَا ٱسْتَطَعْتُمْ} فقال أن الأولى على التوحيد والثانية على الأعمال فالمقام يقتضي ذلك لأنه قال في الأولى : {فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [7]. وكذلك قوله تعالى {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا۟ فَوَٰحِدَةً}[8] مع قوله تعالى : {وَلَن تَسْتَطِيعُوٓا۟ أَن تَعْدِلُوا۟ بَيْنَ ٱلنِّسَآءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ}[9]  فالأول تفهم إمكان العدل والثانية ليست كذلك. فالمراد من الأولى العدل بين الأزواج في توفية الحقوق كالنفقة والكسوة والسكن والمبيت. وأما المراد من الثانية فهو الميل القلبي، ﻷن الإنسان لا يملك ميل قلبه إلى بعض أزواجه دون بعض. وقد كان يقسم النبي عليه الصلاة والسلام بين زوجاته فَيَعْدِلُ وَيَقُولُ : "اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلَا أَمْلِكُ"[10]

والثالث- لاختلاف جهتي الفعل نحو قوله تعالى :{فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمْ ۚ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ} فكأنه قد أثبت القتل والرمي ونفاهما في نفس الآية. فأضيف القتل إليهم والرمي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم على جهة الكسب والعمل والمباشرة لأن الله تعالى قد أمرهم على ذلك لكونه عبادة إلى الله تعالى. وقد نفاه عنهم وعنه من جهة التأثير والإصابة والتبليغ. وهذا يعتبر من ارتباط السبب والنتائج وفقد يتخلف السبب بالنتائج ﻷن كل شيئ لا يكون إلا بإذن الله تعالى. فالتأثير والنتيجة لا يكونا إلا من الله عز وجل.

والرابع- لاختلافهما في الحقيقة والمجاز كقوله تعالى :{وَتَرَى ٱلنَّاسَ سُكَٰرَىٰ وَمَا هُم بِسُكَٰرَىٰ} أي ترى الناس سكارى ليس بسبب الخمر وإنما يضاف إلى أهوال يوم القيامة مجازا وماهم بسكارى أي بالإضافة إلى الخمر حقيقة.

والخامس - بوجهين واعتبارين وهوالجامع للمفترقات، نحو قول عز وجل في سورة الرعد :{ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ ٱللَّهِ} مع قوله تعال في سورة الاأنفال :{إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}. فقد يظن أن الوجل خلاف الطمأنينة والجواب أن الطمأنينة إنما تكون بانشراح الصدر بمعرفة التوحيد والوجل يكون عند خوف الزيغ والذهاب عن الهدى فتوجل القلوب لذلك.[11]وكذلك نحو قوله تعالى في البقرة :{وَإِذْ قَالَ إِبْرَٰهِيمُ رَبِّ ٱجْعَلْ هَٰذَا بَلَدًا ءَامِنًا} بالتنكير وفي سورة إبراهيم :{وَإِذْ قَالَ إِبْرَٰهِيمُ رَبِّ ٱجْعَلْ هَٰذَا ٱلْبَلَدَ ءَامِنًا} بالتعريف، لأنه في الدعوة الأولى كان مكانا ولم يكن بلدا فطلب إبراهيم من ربه أن يجعله بلدا ءامنا. وفي الدعوة الثانية صار بلدا ولم يكن ءامنا فطلب منه الأمن أو كان بلدا ءامنا فطلب إثبات الأمن ودولمه.

وهكذا فإن هذا البحث مجرد مذاكرة يسيرة فحسب، لنعرف مدى اهتمام العلماء بالقرآن وجهودهم واجتهادهم لإزالة ما يوهم على المبتدئين من الاختلاف والتعارض. فإن الله تعالى قد تكلف بحفظ كتابه، وهذا لا يكون إلا من خلال العلماء الربانيين الذين يقومون ببيان إعجاز القرآن من جميع جهاته. فزال كل الإشكال والإيهام والشك بكلام رب العالمين. 

والله تعالى أعلم بالصواب


[1] النساء : ٨٢

[2] القرطبي، أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر، الجامع لأحكام القرآن، الجزء السادس، ص ٤٧٧، دمشق الحجاز، الرسالة العالمية

[3] آل عمران : ٥٩

[4] الحجر : ٢٦، ٢٨، ٣٣

[5] الصافات : ١١

[6] الرحمن : ١٤

[7] آل عمران : ١٠٢

[8] النساء : ٣

[9] النساء : ١٢٩

[10] أبو داود كتاب النكاح باب في القسم بين النساء

[11] الزركشي، الإمام بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي، البرهان في علوم القرآن، الجزء الثاني، ص٤٠، بيروت لبنان، المكتبة العصرية

Kamis, 14 September 2023

من علامات التقوى

كما علمنا أن من ثمرات الصيام و الحكمة من مشروعيته هو تحقيق التقوى في نفس المؤمن. فالتقوى هو خير الزاد للمسلم. كما قال الله تعالى في سورة البقرة : {وَتَزَوَّدُوا۟ فَإِنَّ خَيْرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقْوَىٰ ۚ وَٱتَّقُونِ يَٰأُو۟لِى ٱلْأَلْبَٰبِ} وقد ذكر الله تعالى في القرآن الكريم علامات التقوى في سور مختلفة وفي آيات متعددة منها قوله تعالى : {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ وسارعوا إلى مغفرةٍ من ربِّكم وجنَّةٍ عرضُها السَّماوات والأرض أعدَّت للمتَّقين * الذين ينفِقُونَ في السَّرَّاء والضَّرَّاء والكاظمين الغيظ والعافين عن النَّاس واللّه يُحبُّ المحسنين * والذين إذا فعلوا فاحشةً أو ظلموا أنفسهم ذكروا اللّه فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذُّنوب إلاَّ اللّه ولـم يُصرُّوا على ما فعلوا وهم يعلمون * أولئك جزاؤهم مغفرةٌ من ربِّهم وجنَّاتٌ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجرُ العاملين}  {ال عمران 132-136}

              فقوله {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}  أي وأطيعوا الله أيها المؤمنون فيما نهاكم عنه من أكل الربا وغيره من الأشياء, وقال أهل التفسير : إن لعل و عسى من الله للتحقيق.. ما لا يخفى على العارف من دقة مسلك التقوى وصعوبة إصابة رضا الله تعالى وعزة التوصل إلى رحمته وثوابه كذا قاله الإمام النسفي في تفسيره.

              وقوله: {وسارعوا إلى مغفرةٍ من ربِّكم} وأصل المسارعة هي المبادرة والمعنى سارعوا وبادروا ما يوجب المغفرة. وفيها قراءتان. قرأ نافع و ابن عامر بالواو فيكون عطف جملة على جملة والباقون بدونها لأن الجملة الثانية ملتبسة بالأولى مستغنية بذلك عن العطف بالواو.

              وقوله: {وجنَّةٍ عرضُها السَّماوات والأرض أعدَّت للمتَّقين} حذفت فيها أداة التشبيه أي : مثل عرض السماوات والأرض. ويدل بقوله تعالى في سورة الحديد : { سَابِقُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} و الجملة مي محل جر صفة لجنة. ووصفها بالسعة والبسط فشبهت بأوسع ما علمه الناس من خلقه وبسطه. وقد ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل فقيل له : هذه الجنة عرضها السماوات والأرض فأين النار؟ فقال : هذا النها إذا جاء أين الليل؟"

              قوله : {أعدَّت للمتَّقين} وفي لفظ {أعدت} إعربان : قيل أنه في محل جر صفة ثانية لجنة أي جنة واسعة معدة وقيل أنه في محل نصب لأنه حال للجنة. وقوله : {الذين ينفِقُونَ في السَّرَّاء والضَّرَّاء} أي في حال اليسر والعسر أو في حال الرخاء أو الشدة. وقيل أنها في محل جر صفة أو نعت للمتقين الذين أعدت لهم الجنة. وقيل أنها في محل رفع مبتدأ على القطع المشعر بالمدح.

وقوله : {والكاظمين الغيظ} وأصل الكظم هو الحبس والمكظوم هو الممتلئ غيظا. و الغيظ : أصل الغضب وهو توقد حرارة القلب من الغضب. فلفظ كظم الغيظ هو أن يمسك على ما في نفسه من الصبر ولا يظهر له أثرا. وفي الحديث ما أخرجه أبو داود وغيره في سننه عن سَهْلِ بْنِ مُعَاذٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : "مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ دَعَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ اللَّهُ مِنْ الْحُورِ الْعِينِ مَا شَاءَ"

              وقوله: {والعافين عن النَّاس} أي الصاحفين عن الناس عقوبة ذنوبهم إليهم وهم على الانتقام منهم قادرون فتاركينها لهم. وقوله : {واللّه يُحبُّ المحسنين} فاللام في كلمة {المحسنين} قيل أنها للجنس فيتناول كل حسن ويدخل تحته هؤلاء المذكورين. وقيل أنها للعهد فيكون إشارة إلى هؤلاء. قال الإمام القرطبي فالمعنى أن الله يصيبهم على إحسانهم.

              وقوله: {والذين إذا فعلوا فاحشةً} ذكر الله تعالى هذ الصنف دون الصنف ال,ل لرحمته ومنه ههؤلاء التوابون. وأصل الفاحشة : القبح والخروج عن الحد المقدار في كل شيئ. ولذلك قيل للطول المفرط الطول : إنه لفاحش الطول ويراد به قبيح الطول. والفاحشة بمعنى فعلة متزايدة في القبح, و قيل أنها تطلق على كل معصية وقيل أن المراد هي الكبائر من المعاصي وقد كثر اختصاصها بالزنا. وقوله : {أو ظلموا أنفسهم} أي دون الكبائر أو من الصغائر. والجملة {والذين إذا فعلوا فاحشةً} أنها مبتدأ و الآية التي بعدها في قوله {آلئك} خبر وقيل أن الجملة معطوفا على الموصول قبله وتكون الجملة من قوله : {واللّه يُحبُّ المحسنين} جملة متعارضة بين المتعاطفين.

وقوله: {ذكروا اللّه}أي بلسانهم أوبقلوبهم ليبحثهم على التوبة وقيل بالخوف من عقابه والحياء منه. وقوله : {فاستغفروا لذنوبهم} أي فسألوا ربهم أن يستر عليهم ذنوبهم وقيل أنهم تابوا عنها لقبحها نادمين عنها. وقوله {إذا فعلوا} شرط وجوابه : {ذكروا اللّه} وقوله : {فاستغفروا} عطف على الجواب. والجملة الشرطية وجوابها صلة الموصول والمفعول الأول لاستغفر محذوف أي استغفروا الله لذنوبهم.

وقوله: {ومن يغفر الذُّنوب إلاَّ اللّه} أي ليس أحد يغفر المعصة ولا يزيل عقوبتها إلا الله. و من استفهام بمعنى النفي ولذلك وقع بعده الاستثناء. و {من} مبتدأ و{يغفر} خبره وفيه ضمير يعود إلى {من} و {إلا الله} بدل من الضمير في {يغفر}. والتقدير: "ولا أحد يغفر الذنوب إلا الله" وهذه جملة معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه وفيه تطييب لنفوس العباد وتنشيط للتوبة وبعث عليها وإشعار بأن الذنوب وإن كثرت وجلت فإن عفوه أجل وكرمه أعظم. وورد في الحديث ما أخرجه ابن ماجه والنسائي عن علي بن أبي طالب قال : كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه سلم حديثا نفعني الله بما شاء منه وإذا حدثني غيره استحلفته فإذا حلف لي صدقته وحدثني أبو بكر أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه سلم :"ما من رجل يذنب ذنبا ثم يتوضأ ثم يصلي ويستغفر الله إلا غفر له".

وقوله: {ولـم يُصرُّوا على ما فعلوا} أي لم يثبتوا ويعزموا على ما فعلوا. وأصل الإصرار هو العزم بالقلب وترك الإقلاع عنه وقيل أصله الإقامة على الذنب عامدا وترك التوبة منه. وفي الحديث ما أخرجه أبو داود والترمذي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه سلم : "ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة". وقوله : {وهم يعلمون} وهم يعلمون أن الذي أتوا معصية الله.

وقوله : {أولئك جزاؤهم} هم موصوفون جزاءهم أي ثوابهم من أعمالهم التي وصفهم الله تعالى ذكره أنهم عملوها. قوله : {مغفرةٌ من ربِّهم} أي عفو لهم من الله من عقوبنتهم على ما سلف من ذنوبهم ولهم ما أطاعوا الله فيه من أعمالهم. وقوله : {وجنَّاتٌ تجري من تحتها الأنها} تجري خلال أشجارها الأنهار و في أسافلها جزاء لهم على صالح أعمالهم. وقوله : {خالدين فيها} دائمي المقام في هذه الجنات التي وصفها. وقوله : {ونعم أجرُ العاملين} أي نعم جزاء العالمين لله الجنات التي وصفها.

فمن خلال تدبر هذه الآيات فعلى كل مؤمن أن يجاهد نفسه لتحقيق التقوى في نفسه حتى كتب الله تعالى من المتقين ونال رضاه ومحبته وجنته في الدار الآخرة. قال الله تعالى في كتابه الكريم : {فَإِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُتَّقِينَ}. فأي محبة أعظم وأهم على المؤمن من محبته. وآخيرا نذكركم أيها الإخوة عن قول علي بن أبي طالب حين عرف التقوى بأنها الخوف بالجليل والعمل بالتنزيل والقناعة بالقليل والاستعداد ليوم الرحيل. فهل تحققت هذه العلامات فينا بعد خروجنا من شهر رمضان المبارك؟ فهل حصلنا على حكمة و ثمرات مشروعية صيام نهارها وقيام ليالها؟

واالله تعالى أعلى وأعلم

Senin, 04 September 2023

كيف نهج المفسرون في تفاسيرهم؟


وقد اشتهر من الصحابة من فسروا القرآن الكريم إما اجتهادا منهم أوسماعا من رسول الله. وشرحوا في بعض الأحيان أسباب نزول الآية أو فيمن نزلت هذه اﻵية بحيث أنهم قد عاصروا الرسول وشاهدوا نزول الوحي. وكانوا يقتصرون في تفسير القرآن لتوضيح المعنى اللغوي الذي فهموه من اﻵية بأخصر لفظ مثل قوله تعالى : {فَمَنِ ٱضْطُرَّ فِى مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ} قال ابن عباس : غير متعد لإثم [1].وزاد أحيانا سبب نزول اﻵية كما في قوله تعالى : {إِنَّكَ لَا تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَآءُ} فعن أبي سعيد بن رافع قال قلت لابن عمر : نزلت في أبي طالب؟ قال : نعم. وقد ورد بعض الطرق عند البخاري ومسلم وغيرهما في سبب نزول هذه الآية حين حضرته الوفاة وكان الرسول يراوده على الإسلام [2].إلا أن تفاسير هؤلاء الصحابة لم تصل إلينا كاملة مدونة في كتب إلا نادرا جدا. ولكن قد ذكرت آراءهم في بعض تفاسير العلماء الذين جاءوا من بعدهم مثل تفسير ابن جرير الطبري. وتعتبر تفاسير هؤلاء الصحابة من أعلى أنواع التفسير إلا أنه قد كذب عليهم كثير وأدخلت على تفسيرهم أقوال لم يقولوها ولذلك وجد في تفاسيرهم كثير من الموضوع. فلا بد من التحذير من الأخذ والعمل بها باعتبار أنها من الموضوعات. وماثبت أنها ليست من قبيل الموضوعات فإنها تعد من أقوى التفاسير. وكان أشهر المفسرين من الصحابة علي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس وعبد الله بن مسعود و أبي بن كعب.

وجاء من بعدهم التابعون فرووا كثيرا مما فسره الصحابة. وفسروا آيات القرآن إما اجتهادا منهم وإما سماعا. وذكر أيضا في بعض الأحيان أسباب نزول الآية. ومن أشهر هؤلاء التابعين مجاهد وعطاء بن رباح وعكرمة مولى ابن عباس و سعيد بن جبير. وقد اختلف العلماء في مقدار ثقة هؤلاء التابعين. ووردت أقوالهم أيضا في بعض كتب التفسير كتفسير الطبري.

ثم جاء من بعدهم العلماء فتوسعون في التفسير ونقلوا كثيرا من أخبار اليهود والنصارى. ثم تتابعوا من بعدهم المفسرون فيفسرون الآيات لاستنباط الأحكام ويفسرونها ليثبتوا بها آراءهم وما يميلون إليه من علم كلام و لغة وتشريع وبلاغة ونحو وصرف وغير ذلك. ويبدو من تفسير هؤلاء أي منذ عصر الصحابة وحتى يومنا هذا أن تفسير القرآن في كل عصره متأثرا بحركة العلمية فيه وصورة منعكسة لما في العصر من النظريات ومذاهب وآراء وقلما يخلو التفسير من التأثر بها. [3]

أما شكل هذه التفاسير فلم تؤلف من أول أمرها كعلم مستقل بنفسه. بل انتقل من حال إلى حال في العصور المختلفة. وكان التفسير جزءا من الحديث وبابا من أبوابه. وكان الحديث كما هو معلوم مادة تشتمل المعارف اﻹسلامية. ففيها الروايات المتعلقة بالفقه والسيرة والتفسير وغير ذلك. ففي القرن الثاني من الهجرة بدأوا يجمعون الأحاديث المتشابهة في موضوع واحد فيفصلونها عن غيرها. وقد نشأ تدوين هذه المعار ف الإسلامية في هذا القرن كالسيرة والفقه والتفسير. فأصبح علم التفسير علما مستقلا يدرس وحده كما كان علم النحو والحديث وأصول الفقه قد بدأ تدوينها من العصر الذي قبله. إلا أن علم التفسير وإن كان قد استقل وحده ولكنه لم يكن مدونا بشكل منظم كترتيب المصحف. فكان تفسير الآيات متفرقا هنا وهناك. 

وكان أول من تعرض لتفسير القرآن حسب ترتيب المصحف هو الفراء المتوفى سنة ٢٠٧ هجرية. وجاء من بعده المفسرون. إلا أن أوثق وأشهر ما اعتمد إليه العلماء هو تفسير ابن جرير الطبري المتوفى سنة ٣١٠ هجرية. فتتابع من بعده المفسرون الذين نهجوا وسلكوا في تفاسيرهم وجوها شتى. وكان اختلافهم في النهج بحسب فهمهم وماوصل إليه اجتهادهم. فمنهم من اهتم بمعاني القرآن وما اشتمل عليه من أنواع البلاغة ليعرف به علو كلام الله تعالى وإعجازه كتفسير الكشاف للزمخشري المتوفى سنة ٥٣٨ هجرية ومعاني القرآن للنحاس المتوفى سنة ٣٣٨ هجرية ومجاز القرآن لأبي عبيدة معمر بن المثنى المتوفى سنة ٢٠٩ هجرية. ومنهم من عني بالناحية الإعرابية وذكر فيها اختلاف النحويين ثم رجح أحد آرائهم. وذلك كتفسير البحر المحيط لأبي حيان المتوفى سنة ٧٤٥ هجرية وتفسير الدر المصون في علم كتاب المكنون للسمين الحلبي المتوفى سنة ٧٥٦ هجرية. ومنهم من اهتم ونظر في أصول العقائد ومحاجة المخالفين كتفسير مفاتيح الغيب للرازي المتوفى سنة ٦٠٦ هجرية و تفسير  غرائب القرآن ورغائب الفرقان لنظام الدين النيسابوري المتوفى سنة ٨٥٠ هجرية.

 ومنهم من نظر بالأحكام الشرعية فاهتم باستنباطها من الآيات وربما ذهب لتأييد مذهبه أوذكر اختلاف الفقهاء في وجه استدلال الآيات فرجح ما ذهب إليه مذهبه الفقهي ورجح أحيانا ما ذهب إليه غيره. وذلك مثل تفسير الجامع لأحكام القرآن للقرطبي المالكي المتوفى سنة ٦٧١ هجرية وتفسير أحكام القرآن لأبي بكر الرازي الحنفي المعروف بالجصاص المتوفى سنة ٩٨١ هجرية.

ومنهم من عني لتأييد مذهبه وتفسير الآيات لتأييد فرقته مثل تفسير مجمع البيان في تفسير القرآن للطبرسي المتوفى سنة ٥٤٨ هجرية وتفسير التبيان في تفسير القرآن للطوسي المتوفى سنة ٦٧١ هجرية. وإنهما يؤيدان آراء الشيعة ومذهبهم في العقائد والأحكام.

ومن الأسف الشديد فهناك بعض التفاسير التي دونت على النهج الذي يخالف الشرع ولايطابق بما دلت عليه الآيات والهدف الذي نزل به القرآن. وذلك مثل التفاسير التي ذكرت فيها الإسرائيليات عندما فسر صاحبها القصص الواردة في القرآن كتفسير لباب التأويل في معاني التنزيل لعلاء الدين علي بن محمد البغدادي. ومنها ما نهج مؤلفوها المنهج العلمي أي تفسير الآيات بما تقتضيه التجربة والنظرية العلمية ففسروا الآيات لتناسب مع هذه العلوم مثل تفسير طنطاوي جوهري المسمى بالجواهر في تفسير القرآن الكريم. ومنها مادونت على نهج الباطني والإشاري كما فعله بعض أهل الصوفية. وفوق ذلك فقد ألف بعض التفاسير في عصرنا هذا لأجل تبرير أفكار الغرب وفيها جرأة لدين الله تعالى مثل تفسير محمد رشيد رضا المسمى بتفسير المنار. وقد ألف معظم هذه التفاسير في العصر الهابط وفي عصرنا هذا. فلا تعد هذه التفاسير ولا يوثق بها. فلا بد لمن أراد أن يقرأ كتب المفسرين للأخذ والعمل بما فيها أن يقدم بما اعتمد عليه العلماء من أمهات كتب التفسير كتفسير الطبري و القرطبي والنسفي و ابن كثير وغير ذلك. وأما قراءة التفاسير غير المعتمدة عليها فلا بد من الحذر ولا سيما لعوام الناس.  

فمن هنا نعرف بأن المؤلفات المتقدمة والحديثة في التفسير لا تكاد أن تحص وهي ثروة من الثروات الثقافية لهذه الأمة التي لا مثيل لها عند الأمم. وهذا يدل على احتياج الأمة اليوم إلى المفسرين الذين يخرجون معاني الآيات واستنبطوا الأحكام الشرعية منها لأجل معالجة مشاكل الحياة المتجددة. فلا بد لكل من تعرض لتفسير القرآن المعرفة والفهم بالعلوم والأدوات التي يحتاج إليها فيفسرون الآيات ويستنبطون الأحكام منها على طريقة صحيحة .

والله تعالى أعلم بالصواب

هدانا وإياكم أجمعين



[1] الطبري, أبي جعفر محمد بن جرير الطبري, جامع البيان عن تأويل آي القرآن المجلد الثامن, سورة المائدة, ص ٩٤, هجر للطباهة والنشر والتوزيع, القاهرة, ٢٠٠١ م

[2] الطبري, أبي جعفر محمد بن جرير الطبري, جامع البيان عن تأويل آي القرآن المجلد الثامن عشر ,سورة القصص, ص ٢٨٤, هجر للطباهة والنشر والتوزيع, القاهرة, ٢٠٠١ م

 

[3] تقي الدين النبهاني, الشخصية الإسلامية الجزء الأول, باب أسلوب المفسرين في التفسير, ص ٢٩١