حين نقرأ القرآن ونحفظه ونتدبر آياته قد يقع في ذهننا بعض الاختلاف والتناقض بين آياته أو بين آياته المتشابهات الألفاظ وهذا الاختلاف قد يقع في استعمال بعض الألفاظ لما يوهم أنها في موضوع واحد مثل ما يقع في بعض الآيات التي تتكلم عن خلق آدم عليه السلام فورد في سورة آل عمران : {كَمَثَلِ ءَادَمَ ۖ خَلَقَهُۥ مِن تُرَابٍ} وقال في سورة الحجر : {وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلْإِنسَٰنَ مِن صَلْصَٰلٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} وفي سورة الصافات :{إِنَّا خَلَقْنَٰهُم مِّن طِينٍ لَّازِبٍ} وفي سورة الرحمن : {خَلَقَ ٱلْإِنسَٰنَ مِن صَلْصَٰلٍ كَٱلْفَخَّارِ}. وقد يقع الإثبات والنفي إما في آية واحدة كقوله تعالى : {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمْ ۚ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ} وقوله : {وَتَرَى ٱلنَّاسَ سُكَٰرَىٰ وَمَا هُم بِسُكَٰرَىٰ} أو في عدة الآيات كقوله تعالى: {ٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} مع قوله : {فَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ مَا ٱسْتَطَعْتُمْ}.
فقد
يرجع هذا الإيهام في اختلاف بين بعض الآيات إلى عدم الدراية باللغة العربية
وأساليبها أو عدم المعرفة بما نقل عن رسول الله تعالى. فإن الله قد نزل هذا الكتاب
باللغة العربية وأرسل رسوله ليبين للناس ما نزل إليهم .فلا بد لفهم كلامه من
الرجوع إلى اللغة العربية وأساليبها ومعاني ألفاظها وتراكيبها وكذلك الرجوع إلى ما
نقل عن الرسول عليه الصلاة والسلام.
وكلام
الله منزه من الاختلاف والتناقض وقد قال الله جل شأنه : {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ
ٱلْقُرْءَانَ ۚ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُوا۟ فِيهِ
ٱخْتِلَٰفًا كَثِيرًا}[1] أي
تناقضاوتقاوتا .ولا يدخل في هذا اختلاف ألفاظ القراءات وألفاظ الأمثال والدلالات
ومقادير السور والآيات.[2]
وقد
اجتهد علماءنا في بيان مايوهم الاختلاف والتناقض في آيات القرآن ليزيل الإشكال في
ذهن المبتدئين. ومن هؤلاء العلماء الإمام الزركشي الذي صنف في كتابه المشهور
المسمى بالبرهان في علوم القرآن. فذكر في هذا الباب أسباب للاختلاف وهي :
الأول-
وقوع المخبر به على أحوال مختلفة وتطويرات شتى كقوله تعالى في خلق آدم بأنه: {مِن
تُرَابٍ}[3] وتارة
قال أنه {مِن صَلْصَٰلٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ}[4] ومرة
أنه :{مِّن طِينٍ لَّازِبٍ}[5] ومرة
: {مِن صَلْصَٰلٍ كَٱلْفَخَّارِ}[6]. وقد
اختلفت هذه الألفاظ ﻷن معانيها في أحوال
مختلفة. فالصلصل غير الحمأ والحمأ غير التراب، إلا أن مرجعها كلها إلى جوهر وهو
التراب ومن التراب تدرجت هذه الأحوال.
والثاني
- لاختلاف الموضوع كقوله تعالى :{ٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} مع قوله
:{فَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ مَا ٱسْتَطَعْتُمْ} فقال أن الأولى على التوحيد والثانية
على الأعمال فالمقام يقتضي ذلك لأنه قال في الأولى : {فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا
وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [7].
وكذلك قوله تعالى {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا۟ فَوَٰحِدَةً}[8] مع
قوله تعالى : {وَلَن تَسْتَطِيعُوٓا۟ أَن تَعْدِلُوا۟ بَيْنَ ٱلنِّسَآءِ وَلَوْ
حَرَصْتُمْ}[9] فالأول تفهم إمكان العدل والثانية ليست كذلك.
فالمراد من الأولى العدل بين الأزواج في توفية الحقوق كالنفقة والكسوة والسكن
والمبيت. وأما المراد من الثانية فهو الميل القلبي، ﻷن الإنسان لا يملك ميل قلبه
إلى بعض أزواجه دون بعض. وقد كان يقسم النبي عليه الصلاة والسلام بين زوجاته
فَيَعْدِلُ وَيَقُولُ : "اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ فَلَا
تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلَا أَمْلِكُ"[10]
والثالث-
لاختلاف جهتي الفعل نحو قوله تعالى :{فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ
قَتَلَهُمْ ۚ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ} فكأنه قد
أثبت القتل والرمي ونفاهما في نفس الآية. فأضيف القتل إليهم والرمي إلى الرسول صلى
الله عليه وسلم على جهة الكسب والعمل والمباشرة لأن الله تعالى قد أمرهم على ذلك
لكونه عبادة إلى الله تعالى. وقد نفاه عنهم وعنه من جهة التأثير والإصابة
والتبليغ. وهذا يعتبر من ارتباط السبب والنتائج وفقد يتخلف السبب بالنتائج ﻷن كل
شيئ لا يكون إلا بإذن الله تعالى. فالتأثير والنتيجة لا يكونا إلا من الله عز وجل.
والرابع-
لاختلافهما في الحقيقة والمجاز كقوله تعالى :{وَتَرَى ٱلنَّاسَ سُكَٰرَىٰ وَمَا
هُم بِسُكَٰرَىٰ} أي ترى الناس سكارى ليس بسبب الخمر وإنما يضاف إلى أهوال يوم
القيامة مجازا وماهم بسكارى أي بالإضافة إلى الخمر حقيقة.
والخامس
- بوجهين واعتبارين وهوالجامع للمفترقات، نحو قول عز وجل في سورة الرعد
:{ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ ٱللَّهِ} مع قوله تعال
في سورة الاأنفال :{إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ
وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}. فقد يظن أن الوجل خلاف الطمأنينة والجواب أن الطمأنينة
إنما تكون بانشراح الصدر بمعرفة التوحيد والوجل يكون عند خوف الزيغ والذهاب عن
الهدى فتوجل القلوب لذلك.[11]وكذلك
نحو قوله تعالى في البقرة :{وَإِذْ قَالَ إِبْرَٰهِيمُ رَبِّ ٱجْعَلْ هَٰذَا
بَلَدًا ءَامِنًا} بالتنكير وفي سورة إبراهيم :{وَإِذْ قَالَ إِبْرَٰهِيمُ رَبِّ
ٱجْعَلْ هَٰذَا ٱلْبَلَدَ ءَامِنًا} بالتعريف، لأنه في الدعوة الأولى كان مكانا
ولم يكن بلدا فطلب إبراهيم من ربه أن يجعله بلدا ءامنا. وفي الدعوة الثانية صار
بلدا ولم يكن ءامنا فطلب منه الأمن أو كان بلدا ءامنا فطلب إثبات الأمن ودولمه.
وهكذا
فإن هذا البحث مجرد مذاكرة يسيرة فحسب، لنعرف مدى اهتمام العلماء بالقرآن وجهودهم
واجتهادهم لإزالة ما يوهم على المبتدئين من الاختلاف والتعارض. فإن الله تعالى قد
تكلف بحفظ كتابه، وهذا لا يكون إلا من خلال العلماء الربانيين الذين يقومون ببيان
إعجاز القرآن من جميع جهاته. فزال كل الإشكال والإيهام والشك بكلام رب
العالمين.
والله تعالى أعلم بالصواب
[1]
النساء
: ٨٢
[2]
القرطبي،
أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر، الجامع لأحكام القرآن، الجزء السادس، ص
٤٧٧، دمشق الحجاز، الرسالة العالمية
[3]
آل
عمران : ٥٩
[4]
الحجر
: ٢٦، ٢٨، ٣٣
[5]
الصافات
: ١١
[6]
الرحمن
: ١٤
[7]
آل
عمران : ١٠٢
[8]
النساء
: ٣
[9]
النساء
: ١٢٩
[10]
أبو
داود كتاب النكاح باب في القسم بين النساء
[11]
الزركشي،
الإمام بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي، البرهان في علوم القرآن، الجزء
الثاني، ص٤٠، بيروت لبنان، المكتبة العصرية
Tidak ada komentar:
Posting Komentar