الفرق بين طريقة التفسير وأسلوبه
فإن
من أسباب انحطاط المسلمين هو فصل الطاقة العربية عن الطاقة الإسلامية بحيث أن
الرسالة التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم أنزلت باللغة العربية وكانت الثروة
الثقافية لهذه الأمة صنفت بهذه اللغة أيضا. فالفصل بينهما قد أدى إلى جمود فكري
وسد باب الاجتهاد. فقد ظهرت المسائل المتجددة عند المسلمين فلم يرو جوابا ولا حلولا
من هذا الدين الشامل الكامل مع أن الثروة بين أيديهم وكانت اللغة العربية لغتهم.
وقد
يؤدي هذا الانحطاط ولا سيما بعد الحروب الصلبية إلى وجود التفاسير التي صرفت جهدا
كبيرا نحو العناية بأشياء ليست من التفسير ولا علاقة ﻵيات القرآن بها، فضلا عما
تداخل فيها من الإسرائيليات حتى أصبحت عند المفسرين مصدرا ثالثا.
فإن
التفسير هو معرفة من المعارف الشرعية الهامة وهو من أجل العلوم الشرعية. فلا بد من
العناية بها في كل جيل وفي كل عصر. فهناك أشياء تتجدد ولم تكن من قبل، فهذا يدل
على احتياج الأمة اليوم إلى وجود المفسرين ليستنبطوا الأحكام من القرآن ويستخرجوا
منه المعاني. فلابد عند تفسير القرآن أن يجري على سنن تفسير الصحابة، أي من حيث
الاجتهاد في فهم القرآن والاستعانة بما نقل عن رسول الله. وكذلك الفهم والتفريق
بين الطريقة في التفسير التي لابد بها مع الأسلوب فيه.
فطريقة
التفسير هي الطريقة الثابتة المقررة الدائمية التي لا بد منها لمن يفسر القرآن على
منهجها ولا يجوز الخروج عنها. وهذه الطريقة هي التي يقتضيها واقع القرآن. وحتى
تعرف هذه الطريقة فلينبته إلى أمرين اثنين
:
أولا-
عرض واقع القرآن بأنه كلام عربي. وقد قال الله تعالى : {وَكَذَٰلِكَ أَنزَلْنَٰهُ
قُرْءَانًا عَرَبِيًّا} وقال جل شأنه :
{وَكَذَٰلِكَ أَنزَلْنَٰهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا}. فمن اللازم أن
يفهم القرآن حسب واقعه. وأولا أن تدرك مفرداته من حيث كونها مفردات عربية. فإن
المفردات في القرآن ينطبق عليها المعنى اللغوي حقيقة والمعنى اللغوي مجازا. وقد
تستعمل الألفاظ بالمعنى اللغوي فقط وقد تستعمل الألفاظ بالمعنى المجازي ويتناسى
المعنى اللغوي. وأحيانا تستعمل الألفاظ بالمعنى الشرعي بقرينة تصرفها عن المعنى
اللغوي والمجازي. وقد تستعمل الألفاظ بالمعنى الشرعي والمعنى اللغوي. فمثلا قوله
عز وجل في سورة العنكبوت: {وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ ۖ إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ تَنْهَىٰ
عَنِ ٱلْفَحْشَآءِ وَٱلْمُنكَرِ} وقوله تعالى في سورة الجمعة : {فَإِذَا قُضِيَتِ
ٱلصَّلَوٰةُ فَٱنتَشِرُوا۟ فِى ٱلْأَرْضِ} وقوله تعالى في سورة لقمان: {يَٰبُنَىَّ
أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ} فكلمة الصلاة في هذه الآيات لا تستعمل إلا بالمعنى الشرعي.
وأما في قوله تعالى في سورة الأحزاب: {إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَٰئِكَتَهُۥ يُصَلُّونَ
عَلَى ٱلنَّبِىِّ} وقوله جل شأنه في سورة التوبة: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ۖ إِنَّ
صَلَوٰتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ} فهنا تستعمل كلمة الصلاة بالمعنى اللغوي وهو الدعاء.
وأما
الثاني فتدرك تراكيبه من حيث كونها تراكيب عربية تحتوي ألفاظا عربية. وهذا البحث
كثيرا ما يتعلق بعلم النحو والبلاغة كتقديم الخبر على المبتدأ وتأكيد الخبر
والإيجاز والإطناب والذكر والحذف وغير ذلك من الأبحاث في علم المعاني. وقد فصلها
العلماء أيضا هذه الأبحاث في علوم القرآن وألفوا فيها المؤلفات المستقلة، وعلى
أشهرها مثلا الإتقان في علوم القرآن للسيوطي و البرهان في علوم القرآن للزركشي.
وأما
الثالث أن يدرك واقع التصرف في المفردات في تراكيبها وواقع التصرف في التراكيب
بوصفها تراكيب فحسب. لأن من شأن العرب ومعهود كلامهم أحيانا أنهم لم يروا الألفاظ
حتمية الالتزام وقد يرون جواز العدول عن الألفاظ بحال من الأحوال حين يكون المقصود
هو أداء المعاني. ففي القرآن بعض الألفاظ التي تستغنى عما يرادفها أو يقاربها وهذا
ماوقع في اختلاف وجوه القراءات في الآية الواحدة مثل قوله تعالى في سورة الحجرات:
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} قرأ
بها نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وعاصم وأبو جعفر ويعقوب الحضرمي. وهذه
قراءة صحيحة متواترة عن النبي، ووردت {فَتَثَبَّتوا} قرأ بها حمزة والكسائي وخلف
العاشر قراءة صحيحة متواترة عن النبي أيضًا. وقوله عز وجل : {مَالِكِ يَوْمِ
الدِّينِ} قرأ عاصم والكسائي ويعقوب وخلف بالألف مداً وقرأ الباقون :
{مَلِكِ} بغير ألف قصراً. وهذا الخلاف في
وجوه القراءات قد تؤدي إلى المعاني المختلفة ولكن غير متعارضة بعضها ببعض. بل
بينهما ترادف أو تقارب، فيكون المعنى المتضمن في القراءة الأولى يؤكد المعنى المتضمن
في القراءة الأخرى. فهناك الألفاظ في القرآن لا تؤدي معناها أية كلمة مرادفة أو
مقاربة مثل كلمة ضيزى في قوله تعالى في سورة النجم : {تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ
ضِيزَىٰ}.
والرابع
وأن يدرك فوق ذلك الذوق العالي في أدب الخطاب وفي أدب الحديث. وهذا المبحث يشرح
تفصيلا مثلا في موضوع بدائع القرآن في علوم القرآن. وهذا نوع من أنواع علم
البلاغة. فعلى سبيل المثال موضوع الالتفات الذي كان من فائدته العامة تطرية الكلام
وصيانة السمع عن الضجر والملل لما جبلت عليه النفوس من حب التنقلات والسآمة من
الاستمرار على منوال واحد. فمثلا قوله
تعالى في سورة يس : {وَمَا لِىَ لَآ أَعْبُدُ ٱلَّذِى فَطَرَنِى وَإِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ} ففيه الالتفات من التكلم إلى الخطاب لأجل حث السامع وبعثه على
الاستماع حيث أقبل المتكلم عليه وأعطاه فضل عناية تخصيص بالمواجهة. وكذلك مثلا في
موضوع الاستخدام والتورية والجناس والمقابلة وغير ذلك من الأبحاث المتعلقة لإبراز
الذوق العالي في الخطاب والحديث.
ثانيا
- فهم الموضوع الذي جاء به القرآن. فإن موضوعه رسالة من الله تعالى لبني الإنسان
يبلغها رسول من الله. وفيه كل ما يتعلق بالأمور العقائدية و الأحكام والبشارة
والإنذار والقصص والأمور الحسية والأمور الغيبيات كالجنة والنار والملائكة المبنية
على أصل عقلي. فكلها للإيمان والعمل بها. فللوقوف على هذا الموضوع وقوفا صحيحا
لايمكن إلا عن طريق الرسول. لأن الله تعالى أرسله ليبين للناس ما نزل إليهم قال
تعالى في سورة النحل : {وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ ٱلذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ
مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} . فالرسول مبين لما أنزل
الله تعالى وليس مفسرا. وما نقل عنه برواية صحيحة من تفسير عن الرسول فيعتبر جزءا
من الحديث و لا يعتبر تفسيرا. فطريق الرسول هو سننه. وهي عبارة عما روي عنه رواية
صحيحة من أفعال وأقوال وتقارير. فمن المحتم على المفسر الاطلاع على سنة الرسول.
ويجب أن يكون الاطلاع اطلاع وعي لمتن حديث بغض النظر عن الاطلاع بسندها مادام واثقا
من صحة الحديث أي لا بد عليه إدراك مدلولات الحديث والتفكر فيها والاعتبار
بمفاهيمها لأن التفسير يتعلق بمتن الحديث لا بسندها ولا رواتها.
أما
أسلوب التفسير فهو عبارة عن إبداع المفسر حين تعرض المفسر لتفسير الآيات. وهو شكل
من الأشكال ويعد نوع من التأليف. فليس هناك حد معين من حيث الترتيب والتبويب
والعرض. إلا أنه بعد أن تتبع العلماء المؤلفات في التفسير قديما وحديثا يرون أن
هناك بعض الأساليب المبرزة والمشهورة استعملها المفسرون في تفاسيرهم. فمن هذه
الأساليب ما يلي :
أولا-
التفسير التحليلي : وهو الذي يتبع المفسر ترتيب المصحف فيشرح جملة من الآيات ويبين
ما يتعلق بكل آية من سبب نزولها ومناسبتها ومفرداتها ووجوه القراءات الواردة فيها
وكذلك الناحية البلاغية والإعرابية والأحكام المستنبطة منها. وهذا الأسلوب نجده
كثيرا في مؤلفات المفسرين المتقدمين. كالقرطبي والرازي والآلوسي
ثانيا-
التفسير الموضوعي : وهو الذي يجمع فيه المفسر الآيات المتعلقة بموضوع واحد. إما
على مستوى القرآن كله أو مجموعة من سوره. ثم بوب فيه على المباحث المتنوعة
والمتعلقة بها. فمثلا ما ألف في تفسير آيات الأحكام جمع فيه الأحكام الواردة
المستنبطة في القرآن كالربا ومشروعية الطلاق والجهاد والقصاص وغير ذلك ثم فسر لكل
منها على حدة. وكذلك ما ألف تحت موضوع القتال في القرآن فجمع المفسر الآيات
المتعلقة بالجهاد ثم بوب على شكل أخص منه مثل باب آيات القتال وباب العلاقة بين
آيات العفو وآيات القتال وباب آيات تنظيم
القتال. و مما ألف بهذا الأسلوب هو تفسير محمد علي الصابوني المسمى روائع البيان
تفسير آيات الأحكام.
ثالثا-
التفسير الإجمالي : وهو الذي يبين فيه المفسر خلاصة معنى الآية أو الآيات التي
يفسرها ويبرز مقاصدها ويشرح الدقيق من ألفاظها حتى يتقرر المعنى العام فلا دخول في
تفاصيل كثيرة. وذلك كتفسير الجلالين الذي ألفه جلال الدين السيوطي وجلال الدين
المحلي. فعرفنا
أنه من اللازم لكل من يفسر القرآن حتى يسلك على طريقة صحيحة أي الطريقة التي يجري
عليها الصحابة في تفسيرهم المعرفة والإدراك والإحاطة بعلوم اللغة كالنحو والصرف
والاشتقاق والبلاغة من المعاني والبيان والبديع وكذلك يتحتم عليه الاطلاع بسنة
رسول الله لأن فيها بيان لآيات القرآن وسبب نزولها والناسخ والمنسوخ منها. وهو جزء
من الوحي. وكذلك المعرفة بعلم القراءات التي جاءت عن طريق الروايات. فلا يمكن أبدا
أن يفهم القرآن ويستنبط اﻷحكام والمعاني فيه إلا باللغة العربية. فلا يجوز على هذه
الأمة حتى تستطع أن تنهض وتحل مشاكل حياتها الفصل بين الطاقة العربية والطاقة
الإسلامية.
أما
أسلوب التفسير ولو لم يكن هناك أي حد معين من حيث التبويب والترتيب إلا أنه لابد
عند تفسير القرآن وتأليفه من أسلوب يبعث الرغبة والشغف في المسلمين فضلا عن غيرهم
لقراءة التفاسير ككتاب فكري عميق الفكر ومستنيره. فندو الله أن يجعلنا
ممن يقوم بهذا الدور العظيم، والله ولي التوفيق.
وآخر دعوانا أن الحمد
لله رب العالمين
تقي
الدين النبهاني, الشخصية الإسلامية الجزء الأول, باب حاجة الأمة اليوم إلى
المفسرين, ص ٣٠١
طه
: ١١٣
الرعد
: ٣٧
السيوطي,
جلال الدين عبد الرحمن السيوطي, الإتقان في علوم القرآن, النوع الثامن والخمسون في
بدائع القرآنو ص ٥٣٠, ابن حزم ٢٠١٥ م
الدكتور
عبد الستار فتح الله سعيد, المدخل إلى التفسير الموضوعي, الفصل الأول التفسير
ومعناه العام, ص ١٧, مكتبة الإيمان ٢٠١١ م
١ تقي الدين النبهاني, الشخصية
الإسلامية الجزء الأول, باب حاجة الأمة اليوم إلى المفسرين, ص ٣٠١
Tidak ada komentar:
Posting Komentar