قال الله تعالى في كتابه الكريم : {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَٰبَ
تِبْيَٰنًا لِّكُلِّ شَىْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ}[1]
فالقرآن هو المصدر الأول للتشريع وهو بيان
لكل شيء وهو مكمل ومصدق لما قبله من الكتب. فالإسلام وشريعته ونظامه علاج لمشاكل
الناس أجمعين. سواء كانت هذه المشاكل ظهرت من وجود علاقة الإنسان مع نفسه أو علاقته
مع غيره من بني الإنسان إما في حياته العامة أو في حياته الخاصة.
وقد ظهر كثير من الأمراض الاجتماعية في حياة المسلمين اليوم. وسبب
ذلك يرجع إلى الجهل بالشريعة فيؤدي إلى عدم تطبيقها في حياتهم. فالشريعة قد بينت
الواجبات والحقوق لكل مسلم في أي دور ومقام له في الحياة. فلكل عضو من أعضاء
الأسرة مثلا واجباته وحقوقه. فقد رأينا اليوم ارتفاع نسب الطلاق في البلاد
الإسلامية وانتشار المرض الذي يسمى بالاكتئاب بسبب عدم معرفتهم بالواجبات والحقوق.
فيترك الزوج مثلا أهم واجباته في الأسرة وهو إعطاء النفقة لزوجته وأولاده وتطالب
الزوجة من زوجه فوق طاقته أو لم تطعه في المعروف. وربما أمرها زوجها بأن تراعي
أولاده فشق عليها لأنها لم تفهم أن هذا الأمر من قبيل الوجوب عليها فيثاب على فعله
ويعاقب على تركه. وغير ذلك من الأسباب.
قال
الله تعالى في سورة البلد : {وَهَدَيْنَٰهُ ٱلنَّجْدَيْنِ} وقال جل شأنه في سورة
الشمس : {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّىٰهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَىٰهَا}. وقد
خلق الله الإنسان وسواه وبين له طريقي الخير والشر, فجاء الإسلام بأحكامه ليعرف
الإنسان سبيل الرشد ويؤدبه إن وقع في الشرور والفجور والعصيان بالنصح والعقوبة.
فشريعة الإسلام وأحكامه من أفضل المعالجة على الإطلاق لحياة الناس بل للعالمين, ﻷنها
أتت من عند الخالق الذي يعرف طبيعة مخلوقاته ودقائق أمورها. وهذه الشريعة توافق
فطرة الإنسان وتملأ القلوب طمأنينة.
فمن الممكن أن يقع الإنسان في الخطأ والمعصية. فهذا البحث سيتناول
عما وقع فيه الزوح أو الزوجة من النشوز. وقد بين القرآن على أن النشوز يمكن أن
يظهر من جهة الزوج أو الزوجة لسبب من الأسباب. فبين القرآن علاج هذه القضية.
أما بالنسبة لنشوز الزوجة فقال الله تعالى : {وَٱلَّتِى
تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَٱهْجُرُوهُنَّ فِى ٱلْمَضَاجِعِ وَٱضْرِبُوهُنَّ
ۖ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا۟ عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا ۗ إِنَّ ٱللَّهَ
كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} [2].فبعد
أن بين الله تعالى في مقدمة هذه الآية عن منزلة الرجل بأنه قوام على النساء وبيده
قيادة الأسرة لما أوجب الله عليه من الصداق والنفقة ثم بين بعد ذلك علامات المرأة
الصالحة, فشرع في الكلام عما إذا وقعت الزوجة في نشوز زوجها أي عصيانها له واستصعبت
عليه وارتفعت عن طاعته. وقال ابن عباس : هو أن تستخف بحقوق زوجها ولا تطيع أمره.
فأمر الله تعالى على الزوج بقوله : {فَعِظُوهُنَّ} أي ذكروهن ما أوجب الله عليهن
من حسن الصحبة وجميل العشرة للزوج والاعتراف بالدرجة التي عليها.[3]وخوفوهن
عقوبة الله تعالى.[4]
وإذا لم ترجع الزوجة عما فعلته ولم تعترف بحقوق زوجها {وَٱهْجُرُوهُنَّ فِى ٱلْمَضَاجِعِ}
أي فعليه أن يهجرهن في المضاجع. فعن ابن عباس وغيره أن الهجر في المضاجع هو أن
يضاجعها ويوليها ظهره ولا يجامعها. فإن لم ينجع الوعظ ولا الهجران {وَٱضْرِبُوهُنَّ}
أي فيجوز عليه أن يضربها. والضرب في هذه الآية لا يكون إلا لقصد التأديب وليس
للتعذيب. فلا يجوز الضرب المبرح الذي يكسر العظم ويشين الجارحة, فلا يضرب أيضا على
وجهها. وقد وردت الرواية عن هذا النهي
منها ما أخرجها الترمذي عن سُلَيْمَانَ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْأَحْوَصِ عن
أبيه الذي شهد حَجَّةَ الْوَدَاعِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أنه قال : "أَلَا وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا فَإِنَّمَا
هُنَّ عَوَانٌ عِنْدَكُمْ لَيْسَ تَمْلِكُونَ مِنْهُنَّ شَيْئًا غَيْرَ ذَلِكَ
إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ فَإِنْ فَعَلْنَ فَاهْجُرُوهُنَّ
فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ
فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا".
ثم قال الله تعالى : {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ} أي فإذا رجعت الزوجة
وتابت وأطاعت زوجها وتركت النشوز {فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا} أي أن هذا
النهي للزوج عن ظلمها وألا يؤذيها, ثم ختم الله هذه الآية بقوله : {إِنَّ ٱللَّهَ
كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} إشارة إلى الأزواج ليحسن المعاشرة وألا يستعلي أحد على
امرأته. فالله هو الوحيد القادر وهو العليم العلي الكبير الذي يراقب جميع أعمال
عباده.
هذا من حيث نشوز الزوجة على الزوج فأمره الله تعالى على أن
ينصحها ويذكرها ما عليها من الواجبات ومالها من العقوبة والتحذير من الله عز وجل.
فإن لم يؤثر عليها النصح والوعظ فعليه الهجران وإن لم تنجع الزوجة بهذا التأديب
فيجوز على الزوجة ضربها لأن المقصود منه الصلاح لا غير. فقد أوصى رسول الله عليه
أفضل الصلاة والسلام الرجال فقال : "فَاتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ
فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللَّهِ وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ
بِكَلِمَةِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ
فَإِنْ فَعَلْنَ ذَلِكَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ وَلَهُنَّ
عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ" [5]
أما بالنسبة لنشوز الزوج على زوجتها فيكون العلاج كما قال الله
عز وجل في نفس السورة : {وَإِنِ ٱمْرَأَةٌ خَافَتْ مِنۢ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ
إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا ۚ وَٱلصُّلْحُ
خَيْرٌ ۗ وَأُحْضِرَتِ ٱلْأَنفُسُ ٱلشُّحَّ ۚ وَإِن تُحْسِنُوا۟ وَتَتَّقُوا۟
فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}[6]
فسبب نزول هذه اﻵية ما أخرجه البخاري عن عائشة رضي الله عنها فِي هَذِهِ الْآيَةِ {وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ
مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} قَالَتْ الرَّجُلُ تَكُونُ عِنْدَهُ
الْمَرْأَةُ لَيْسَ بِمُسْتَكْثِرٍ مِنْهَا يُرِيدُ أَنْ يُفَارِقَهَا فَتَقُولُ
أَجْعَلُكَ مِنْ شَأْنِي فِي حِلٍّ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي ذَلِكَ".
وما أخرجه الترمذي عن ابن عباس قال قَالَ خَشِيَتْ سَوْدَةُ أَنْ يُطَلِّقَهَا
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ لَا تُطَلِّقْنِي
وَأَمْسِكْنِي وَاجْعَلْ يَوْمِي لِعَائِشَةَ فَفَعَلَ فَنَزَلَتْ { فَلَا جُنَاحَ
عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ } فَمَا
اصْطَلَحَا عَلَيْهِ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ جَائِزٌ".
{وَإِنِ ٱمْرَأَةٌ خَافَتْ مِنۢ بَعْلِهَا}
أي إن توقعت الزوجة من بعلها أي زوجها, ويطلق على الزوح بالبعل ﻷنه سيد المرأة
بالقوامة. {نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} فالنشوز هو استعلاء وارتفاع نفسه على
زوجتها. ومن علامات النشوز الغلظة والجفاء والضرب والسب والتهديد بالطلاق وأن
يمنعها نفسه ونفقته ومودته. وأما الإعراض فهو كـأن يقلل من محادثتها ومؤانستها
ويتساهل في تحقيق رغباتها. وأما أسباب النشوز والإعراض فقد تكون من قبيل الزوجة
نفسها كتقدم السن وعقمها وتغير طباعها وإهمالها لمنزلها وتقصيرها في رعاية
أولادها, وقد تكون من غير جهتها كتأثير ضرة عليه في كراهيتها أو ظهور امرأة أخرى
لم تكن من قبل فلما تزوجهت غيرت مجرى حياتهما.[7] فربما تزوج الزوج الشابة وكان ميله إليها أكثر
وآثرها على الزوجة الأولى.
ثم قال الله تعالى : {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَن يُصْلِحَا
بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَٱلصُّلْحُ خَيْرٌ} أي فلا إثم عل كل من الزوج والزوجة أن
يصلحا بينهما صلحا بحيث تتنازل الزوجة من حقها في القسم فتعطيه لإحدى ضراتها
-فتستمر الحياة معه وذلك كما فعلته سودة مع رسول الله بأن تعطي يومها لعاشئة- أو
أن تضع بعض حقوقها من نفقة أو كسوة أو أن تهبه شيئا من مهرها. وأما للزوج فلا إثم
ولا حرج عليه قبول ذلك منها ولا يعتبر رشوة مؤثرة لكليهما. والصلح خير فاللام إما
للعهد فيكون المراد الصلح بين الزوج وزوجته ففيه إثبات الخيرية بأنه خير من
الإعراض والنشوز والفرقة أو من الخصومة. وإما أن تكون للجنس فيكون المراد الصلح
على العموم.
ثم قال : {وَأُحْضِرَتِ ٱلْأَنفُسُ ٱلشُّحَّ} أحضر من فعل متعد
إلى مفعولين والفاعل محذوف والأنفس يقوم مقامه وهو مفعول أول والشح مفعول ثان.
فالتقدير : أحضر الله تعالى اﻷنفس الشح. والشح أشد من البخل أو البخل مع الحرص
والجملة اعتراضية. فهذا يدل على أن الشح من طبيعة البشر. فحين أمر الله تعالى
الصلح ولا يكون إلا من جهتهما معا فلا بد على الزوجين أن يقدرا حرص الآخر ومصلحته.
قال ابن عطية : "فإن الغالب على المرأة الشح بنصيبها من زوجها والغالب على
الزوج الشح بنصيبه من الشابة". فلا بد أن تنظر الزوجة حالة نفسية الرجل فتبذل
بعض حقوقها إليه من القسم والنفقة مثلا وينظر الزوج إلى حالة نفسية المرأة فيقنع
بشيء يسير من قبل زوجتها فيحسن المعاشرة فيجود الإنفاق فيتحقق من ذلك الصلح.
ثم اختتم الله تعالى هذه الآية بقوله : {وَإِن تُحْسِنُوا۟ وَتَتَّقُوا۟
فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} أي تحسنوا العشرة مع النساء و
تتقوا النشوز والإعراض مع وجود الأسباب المؤدية إليهما وتصبروا على ذلك ولم
تضطروهن على فوت شيء من حقوقهن فإن الله بما تعلمون من الإحسان والتقوى خبير. فعبر
بالخبير دون العليم لأن الخبير أشمل من العليم فالخبير يسبقه العلم و يكون لدقائق
الأمور ولا يكون ذلك إلا الله تعالى.
فمن هنا عرفنا كيف عالج القرآن قضية النشوز إما من جهة الزوج أو
الزوجة حتى تستقيم الحالة بينهما وتستمر الحياة الزوجية على حسب ما أقره الشرع
وأرشده القرآن بأن العلاقة بينهما هي علاقة المصاحبة. فالزوجة صاحبة لزوجها وهو
صاحب لها في حياتها. وقد عبر القرآن الزوجة بالصاحبة في بعض آياته مثل قوله تعالى
في سورة عبس : {يَوْمَ يَفِرُّ ٱلْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِۦ وَأَبِيه
وَصَٰحِبَتِهِۦ وَبَنِيهِ} أي زوجته وأولاده.
والله
تعالى أعلى وأعلم
[1]
النحل : 89
[2]
النساء
: 34
[3] القرطبي، أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر، الجامع
لأحكام القرآن، الجزء السادس، ص ٢٨٣، دمشق الحجاز, الرسالة العالمية
[4]
النسفي, أبي البركات عبد الله بن أحمد بن محمود النسفي,
مدارك التنزيل وحقائق التأويل, الجزء الأول ص ٣٥٤, دار تحقيق الكتاب, لبنان
[5]
صحيح
مسلم, باب الحج, حجة النبي صلى الله عليه وسلم
[6]
النساء : 128
[7]
الأستاذ الدكتور
السيد بن إسماعيل علي سليمان عوض, الفتح الرباني في الشرح والتعليق على تفسير روح
المعاني للعلامة الآلوسي البغدادي, ص ١٣٣